سجينات الكوخ ولأن حظها تعس، دفنت شبابها الغض، وجمالها الفتان، وحيويتها ، وحبها للنشاط مع الناس..في ذلك الكوخ القصديري، الذي شيده زوجها فوق بضعة أمتار حصل عليها هبة من أبيه، بعد صراعات مع أخوات وإخوة كادت تنتهي بطلاقها وتشرد ثلاث بنات كشقائق زهور السفرجل..في تلك المدينة الساحلية ذات الصيت بروعة شواطئها وجمال سهولها وتلالها وخضرة نباتها وحضارة عمرانها...
حين تقدمت عائلة الحسب والنسب ، القادمة من أكبر ولايات الوطن.. ادعت التمدن وتحضر المرأة..وتفتح الرجال ..وتظاهرت بالثراء والجاه، لم تمانع عائلة " رحاب " في قبول "كريم" زوجا لابنتهم على سنة الله ورسوله، ما دام السكن والوظيفة متوفرين..وتمت مراسيم الزفاف في ظروف طبيعية..الغريب في الأمر أن عائلة "رحاب" لم تتفطن للغرض الذي كان وراء خطبة ابنتهم ومن هنا تبدأ مآسي رحاب التي وجدت نفسها بين عدة أفراد؛ ثلاث بنات وثلاثة ذكور، والأم والأب متكدسين في محتشد ،يتداولون على دخول مرافقه لقضاء حاجات ضرورية ..صراع مرير على لقمه العيش ومكر ودهاء وغيرة وحسد..لم تتأقلم "رحاب" عانت الأمرين،خاصة بعد زواج أخيها "مصطفى" الذي كان محط إعجاب أخوات زوجها اللواتي كن في انتظار من يختارها وتفوز به ؟ ..وتحولت حياتها إلى جحيم فظيع، أضحت مهددة بالطلاق رغم أن زوجها أحبها، وانسجما معا..وفي هذه الدائرة المأساوية وضعت مولودتها البكر وحيدة لا سند ولا أنيس..واضطرت إلى السفر إلى عائلتها طلبا للراحة والهدوء..
بعيدا عنها وضع "كريم" أمام اختيار صعب .. في اجتماع عائلي قالت له والدته:
هذه الزوجة لا تطيق أخواتك طلقها لنستريح ..
قال: هي فتاة رائعة لم تحدثني عنهن إلا بالخير، إنها ابنة عائلة شريفة، لم أجد منها إلا الطاعة والاحترام.. ما هذا الذي تقولينه في غيابها !.؟.
ترد الأم غاضبة: آه سحرتك إذن ..لا أريدها في بيتي
غادر هو الآخر بيت والديه حائرا ،يفكر في الظلم ومراتعه..وتلك البريئة التي جاءت إلى الدنيا ولم يحتف بها..ما ذنبها أن تعيش وحيدة بعيدا عنه؟..كان من الواجب أن تكون بين أحضانه، يرعاها ويعالج زوجته..إنه يدرك أنها مظلومة وعانت في صمت ما عانى أيوب
وصبرت كثيرا في ذلك البيت الذي لا يطاق وقرر ألا يعود...
مر عام وهو يلهث في تلك المدينة الكبيرة التي لا ترحم الفقراء أمثاله..لما شعر الأب بضياعه منحه قطعة أرض شرط أن يسدد ثمنها ..قبل وقبل يديه وعجل في إنشاء غرفة ومطبخ على شاكلة تلك البيوت المنتشرة خارج المدينة..وزف الخبر إلى زوجته وأعادها رفقة ابنته "نسرين" ودام الاستقرار والسعادة التي يكتنفها الخوف من غدر الزمان ورزقهما الله بنتين "نرجس وسوسن " ورغم الضائقة المادية، كان البيت الهش سعيدا ، تدفق الدعم من الأيادي الناعمة جزيلا..كبرت البنات وملأن الحياة ضجة وحركة..كانت "رحاب "تخاف عليهن من الخروج، لأنها عاشت غريبة في مدينة يكتنفها البحر والشواطئ العامرة، تعج بالسواح في كل الفصول ..لكن بناتها كتب عليهن السجن الأبدي ،ويعشن طفولة بائسة وسط محيط من ذوي الرحم